زيارة الشرع لباريس- آفاق التحول السوري ومصالح فرنسا المتجددة

تكتسب زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة الفرنسية باريس مكانة مرموقة وأهمية قصوى، ليس لمجرد كونها أول زيارة لرئيس سوري إلى عاصمة أوروبية فحسب، بل لأنها تفتح آفاقًا واسعة لأوروبا نحو التحول السوري الجديد. يضاف إلى ذلك أن فرنسا تحظى بمكانة رفيعة ونفوذ واسع في منظومة الاتحاد الأوروبي، وكانت من أوائل الدول الأوروبية التي بادرت بإيفاد وزير خارجيتها جان نويل بارو، برفقة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا ألما بيربوك، إلى دمشق.
وفضلاً عن ذلك، قامت فرنسا بإعادة فتح سفارتها في دمشق، بعد أن كانت قد أغلقتها في شهر مارس/ آذار من عام 2012، وذلك إثر قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا احتجاجًا على القمع الوحشي والتعامل الدموي الذي واجه به نظام الأسد البائد المتظاهرين السلميين الذين انتفضوا ضد النظام في منتصف شهر مارس/ آذار من عام 2011. وفي خطوة لاحقة، قامت باريس بتعيين السفير جان باتيست فيفر قائمًا بالأعمال في سفارتها بدمشق.
والجدير بالذكر، المُلاحظة الفائقة هو المسارعة اللافتة من الرئيس إيمانويل ماكرون لتهنئة أحمد الشرع بتوليه مقاليد منصب الرئاسة السورية، وتوجيه دعوة رسمية له لزيارة فرنسا، لكنه عاد وربط هذه الدعوة بشروط سياسية جوهرية، تتلخص في ضرورة تشكيل حكومة سورية شاملة تمثل كافة أطياف وشرائح المجتمع المدني السوري، وتوفير الضمانات الأمنية الضرورية واللازمة لعودة ملايين اللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها.
لكن السؤال المحوري والملح الذي يفرض نفسه بإلحاح، هو: ما الذي يبتغيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على وجه التحديد من نظيره السوري أحمد الشرع؟
في بادئ الأمر، تشير هذه الزيارة إلى مدى جدية فرنسا واهتمامها البالغ بالوضع السوري الجديد، وتأتي كتتويج لمسار حثيث سلكته السلطة السياسية الجديدة في سوريا بهدف إعادة بناء علاقاتها الدولية وتقوية صلاتها مع الآخرين، وكسر طوق العزلة السياسية الخانقة التي فُرضت على البلاد لفترة زمنية طويلة. لذلك، سعت الإدارة الجديدة جاهدة إلى الانفتاح على الأوروبيين بهدف رفع كافة العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، أو على الأقل تخفيف وطأتها، والمساهمة الفعالة في ملفَي التعافي المبكر وإعادة الإعمار، وتقديم مساعدات اقتصادية وتقنية تعد سوريا بأمسّ الحاجة إليها في الوقت الراهن.
وبناءً على ذلك، فإن زيارة الرئيس الشرع إلى باريس تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، تمكن حكام سوريا الجدد من الحصول على تأييد واعتراف دولي واسعَين، بالإضافة إلى احتضان عربي خليجي سخيّ وغير مشروط، الأمر الذي يضفي عليهم شرعية خارجية قوية. وتدلل الزيارة بوضوح على حدوث تغير ملحوظ في موقف غالبية دول الاتحاد الأوروبي تجاه التحول السوري، الذي أنهى حقبة حكم آل الأسد الاستبدادي.
وبالتالي، فإن هذه الزيارة تمثل فرصة ذهبية وهامة للرئيس الشرع لكي يشرح رؤيته الثاقبة لمستقبل سوريا، وأن يقدم تصوره الشامل لمسار عملية الانتقال السياسي فيها، خاصة وأن سوريا بأمسّ الحاجة إلى تضافر جهود الدول للوقوف بجانبها ودعمها في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية الجسيمة التي تواجهها. بالإضافة إلى سعيها الحثيث لحشد دعم دولي واسع النطاق لوقف الاعتداءات والتوغلات الإسرائيلية المتكررة، التي تسعى جاهدة إلى تفتيتها وزعزعة أمنها واستقرارها.
والحقيقة الماثلة للعيان، هي أنّ فرنسا، التي بات دورها ثانويًا وهامشيًا في الأزمات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، تسعى جاهدة للعودة إلى الانخراط فيها من البوابة السورية واللبنانية، واستئناف نفوذها ودورها التاريخي المؤثر، خاصة أنها لا تزال تحتفظ ببعض أوراق النفوذ في المنطقة. لذلك، سارعت إلى احتضان المؤتمر الدولي حول سوريا، الذي انعقد في الثالث عشر من شهر فبراير/ شباط الماضي، بمشاركة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وتبذل جهودًا مضنية من أجل رفع العقوبات عن سوريا، وذلك في إطار سعيها الدؤوب لأن تكون الراعي الدولي الأوروبي الرائد لعملية الانتقال السياسي في سوريا.
وترتكز فرنسا في عودتها القوية إلى الملف السوري، على الدعم الكبير الذي أظهرته لتطلعات الشعب السوري منذ بداية ثورة عام 2011، حيث تبنّت موقفًا مساندًا بقوة للمعارضة ضد نظام الأسد البائد، وانخرطت بفاعلية في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وتعاملت بإيجابية مع التغير السوري، بهدف إبعاد روسيا وإيران عن الساحة السورية، وكل ما قد يتسبب في إحداث فوضى عارمة خلال عملية الانتقال السياسي فيها.
ويضاف إلى ذلك، أن منظمات حقوقية فرنسية وسورية استثمرت قوانين الاختصاص القضائي العالمي، والمبدأ الجنائي الفرنسي، في رفع قضايا جادة لمحاكمة مجرمين من نظام الأسد، نظرًا لأن تلك القوانين تسمح بمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية حتى لو ارتكبت خارج الأراضي الفرنسية وضد أجانب، شريطة وجود صلة وثيقة بفرنسا، مثل حمل الضحايا للجنسية الفرنسية.
وتجدر الإشارة إلى أن قضاة فرنسيين قد أصدروا في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2018 مذكرات توقيف دولية بحق ثلاثة من كبار مسؤولي أجهزة استخبارات نظام الأسد، وهم: علي مملوك (مدير المخابرات العامة)، وجميل حسن (مدير المخابرات الجوية آنذاك)، وعبد السلام محمود (مسؤول في فرع التحقيق بمطار المزة).
وفي سياق متصل، أصدر القضاء الفرنسي مذكرة اعتقال ثانية في العشرين من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي بحق بشار الأسد. وكان قضاة فرنسيون قد أصدروا في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2023، أول مذكرة اعتقال بحقه لاتهامه بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
وتطلع الرئيس ماكرون من زيارة الرئيس الشرع إلى باريس إظهار التزام فرنسا الراسخ بدعم إعادة "بناء سوريا جديدة حرة ومستقرة وذات سيادة كاملة تحترم جميع أطياف المجتمع السوري دون تمييز"، لكن جل تركيزه انصب على القيام بالمزيد من الخطوات الجادة باتجاه توسيع دائرة تمثيل الأقليات في مفاصل الحكم والدولة، وإيقاف الانتهاكات والتجاوزات التي حصلت مؤخرًا في الساحل السوري، بالإضافة إلى ملف المقاتلين الأجانب في سوريا، وضرورة إبعادهم عن قيادة الجيش الجديد.
وعلاوة على ذلك، ضرورة انخراط سوريا في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، وضرورة دمج حلفائه في قوات سوريا الديمقراطية في العملية الانتقالية، فضلاً عن أنه لم يخفِ مطالبته الصريحة بأن تبقى سوريا بعيدًا عن نفوذ النظامين: الروسي والإيراني، ومنع سوريا من أن تتحول مرة أخرى إلى منصة للميليشيات الإيرانية لزعزعة استقرار المنطقة. ما يعني منع وصول الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، منعًا لأي تهديد للداخل اللبناني، ولأمن إسرائيل.
إلا أنّ القضايا التي توليها فرنسا اهتمامًا بالغًا لا تنحصر بالوضع الداخلي لسوريا، وما يتعلق بعملية الانتقال السياسي، ومشاركة الأقليات وحقوق المرأة، بل تتمحور حول قضايا إقليمية ودولية أكثر أهمية، أبرزها:
- استقرار المنطقة، وخاصة الوضع الحساس في لبنان المجاور، مع التركيز بشكل خاص على ترسيم الحدود البرية والبحرية المتنازع عليها بين سوريا ولبنان، ووضع اللاجئين السوريين المتواجدين فيه.
- ملف مكافحة الإرهاب ومنع ظهور تنظيم الدولة الإرهابي، وتراه باريس تحديًا مشتركًا يواجه المجتمع الدولي بأسره. إضافة إلى بحث مصير معتقلي التنظيم الفرنسيين وعوائلهم المتواجدين في السجون التي تشرف عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
- وضع الكيانات والمجموعات الكردية التي تحظى بدعم فرنسا، ومناقشة مصير الاتفاق الذي تم توقيعه في العاشر من شهر مارس/ آذار الماضي بين الرئيس الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، بشأن إدماج قسد في الجسم السوري الجديد.
- مسألة عودة اللاجئين السوريين المتواجدين في مختلف البلدان الأوروبية.
وليس من المستغرب أو الجديد القول إن ما يهم الدول في المقام الأول هو مصالحها العليا، وبناءً على ذلك، فإن فرنسا لديها مصالح اقتصادية حيوية في سوريا، وذلك في ظل مرحلة إعادة الإعمار المقبلة عليها، وترغب الشركات الفرنسية في أن يكون لها نصيب وافر منها. ولعل باكورة الحصة الفرنسية تجسدت في العقد الهام الذي وقعته "الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية" السورية مع شركة "سي إم إيه سي جي إم" الفرنسية، ومدته ثلاثون عامًا، ويتضمن قيام الشركة الفرنسية بتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية الحيوي بقيمة إجمالية قدرها 230 مليون يورو، على أن تضخ الشركة خلال العام الأول مبلغًا قدره 30 مليون يورو، فيما تضخ في الأعوام الأربعة اللاحقة مبلغًا قدره 200 مليون يورو، على أن تقوم بإنشاء رصيف الميناء بطول يبلغ كيلو ونصف الكيلومتر وبعمق يصل إلى سبعة عشر مترًا.
ولعل توقيع اتفاق بهذا الحجم الكبير مع شركة فرنسية مرموقة، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، موقف فرنسا الداعم بقوة لاستقرار سوريا. إلا أن ضخ الاستثمارات الفرنسية في مختلف القطاعات الاقتصادية السورية يتطلب بالضرورة رفع العقوبات المفروضة عليها، وخاصة العقوبات الأمريكية القاسية على سوريا، التي تشكل أكبر عقبة في طريق تعافي البلاد وتحسين الظروف المعيشية للسوريين، فضلاً عن أنّها تعيق عودة ملايين اللاجئين السوريين الذين ينتظرون بفارغ الصبر توفير بيئة ملائمة معيشيًا لعودتهم الآمنة إلى بلادهم، حيث لا تمتلك السلطات الجديدة القدرة الكافية على تقديم الخدمات والاحتياجات الضرورية لعموم السوريين، خاصة وأن أكثر من تسعين في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر المدقع.